فصل: 1- تكليم الله نبيه بما يريد من وراء حجاب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.تتمّة: مقدار ما كان ينزل به جبريل من الآيات:

الذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها، أن القرآن كان ينزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بحسب الحاجة: خمس آيات، وعشر آيات، وأكثر أو أقل.
وقد صح نزول العشر الآيات في قصة الإفك جملة، وصح نزول عشر آيات من أول سورة المؤمنون جملة، وصح نزول: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وحدها، في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ...} [سورة النساء: 95] الآية، وكذلك قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة: 28] نزل بعد أن نزل أول الآية، كما حرره الإمام السيوطي في أسباب النزول وقد ورد في بعض الآثار نزول بعض السور جملة واحدة كسورة الإخلاص والكوثر والمرسلات.
ولا يخالف ما ذكرنا ما رواه البيهقي في الشّعب بسنده عن عمر قال: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات؛ فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم خمسا.. خمسا، وما أخرجه ابن عساكر من طريق أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة وخمس آيات بالعشيّ، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات، خمس آيات، فإن المراد- إن صح- إلقاؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا القدر حتى يحفظه، ثم يلقي إليه الباقي، لا إنزاله بهذا القدر خاصة.
ويشهد لهذا التفسير ما أخرجه البيهقي عن أبي العالية قال: تعلموا القرآن خمس آيات، خمس آيات؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من جبريل خمسا خمسا، ويصح أن يراد به أن ذلك هو الغالب الكثير فلا ينافي حصول الوحي بأكثر أو بأقل.
وما كان لنا- وقد تكلمنا عن إنزال القرآن- أن نغفل الكلام عن الوحي إذ الإنزال متوقف على معرفة معنى الوحي وكيفيته، وإمكانه ووقوعه، وهو ما سنتكلم عنه الآن.

.الوحي: لغة واستعمالاته:

ما هو الوحي..
للوحي معنى في اللغة، ومعنى في الاصطلاح، أما في اللغة.. فإليك ما قاله العلماء في هذا:
قال في الأساس: أوحى إليه وأومئ إليه بمعنى، ووحيت إليه وأوحيت إذا كلمته بما تخفيه عن غيره، وأوحى الله إلى أنبيائه، {وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [سورة النحل: 68].
وفي القاموس المحيط: الوحي: الإشارة والكتابة والمكتوب والرسالة، والإلهام والكلام الخفي، وكل ما ألقيته لغيرك.
وقال الراغب: أصل الوحي: الإشارة السريعة، ولتضمن السرعة قيل: أمر وحى، يعني: سريع، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وقد حمل على ذلك قوله تعالى عن زكريا عليه السلام: {فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [سورة مريم: 11]، أي: أشار إليهم ولم يتكلم.
ومنه: الإلهام الغريزي، كالوحي إلى النحل، قال تعالى: {وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [سورة النحل: 68]، وإلهام الخواطر بما يلقيه الله في روع الإنسان السليم الفطرة، الطاهر الروح، كالوحي إلى أم موسى، ومنه ضده، وهو وسوسة الشيطان، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ} [سورة الأنعام: 121]، وقال: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام: 112].
فالخلاصة في معنى الوحي اللغوي: أنه الإعلام الخفي السريع، وهو أعم من أن يكون بإشارة أو كتابة أو رسالة، أو إلهام غريزي، أو غير غريزي، وهو بهذا المعنى لا يختص بالأنبياء، ولا بكونه من عند الله سبحانه.
وأما في الشرع: فيطلق ويراد به المعنى المصدري، ويطلق ويراد به المعنى الحاصل بالمصدر، ويطلق ويراد به: الموحى به.
ويعرف من الجهة الأولى: بأنه: إعلام الله أنبياءه بما يريد أن يبلغه إليهم من شرع أو كتاب بواسطة أو غير واسطة، فهو أخص من المعنى اللغوي لخصوص مصدره ومورده؛ فقد خص المصدر بالله سبحانه، وخصّ المورد بالأنبياء.
ويعرف من الجهة الثانية: بأنه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من عند الله، سواء أكان الوحي بواسطة أم بغير واسطة.
ويعرف من الجهة الثالثة: بأنه ما أنزله الله على أنبيائه، وعرّفهم به من أنباء الغيب والشرائع والحكم، ومنهم من أعطاه كتابا، ومنهم من لم يعطه.

.أقسام الوحي الشرعي وكيفياته:

ينقسم الوحي باعتبار معناه المصدري إلى ما يأتي:

.1- تكليم الله نبيه بما يريد من وراء حجاب:

إما في اليقظة: وذلك مثل ما حدث لموسى عليه السلام قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً} ومثل ما حدث لنبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه ليلة الإسراء والمعراج.
والسلف والمحققون من العلماء على أن موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء كنبينا محمد عليه الصلاة والسلام قد سمع كلام الله حقيقة لا مجازا، والواجب علينا أن نؤمن بما ورد من صفة الكلام في القرآن والسنة الصحيحة من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل.
وأما ما زعمه المعتزلة وموافقوهم، من أن معنى كونه متكلما: أنه خالق للكلام كما خلق الكلام في الشجرة لموسى عليه السلام فزعم باطل لمخالفته للقواعد اللغوية والشرعية، وأقوى دليل في الرد عليهم قول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً}، فقد أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكّد بذكر المصدر انتفى احتماله للمجاز.
وكذلك ما زعمه الأشاعرة من التفرقة بين الكلام النفسي، والكلام اللفظي المسموع، وأن الأول قديم دون الثاني، فزعم باطل أيضا، ترده النصوص المتكاثرة من القرآن الكريم القطعي المتواتر، والسنة الصحيحة المتكاثرة وأظهر دليل في الرد عليهم قول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6].
والإجماع على أن المراد بكلام الله في الآية هو القرآن الكريم، والآية غير محتملة للتأويل قطعا.
وإما في المنام: كما في حديث معاذ مرفوعا: «أتاني ربي، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى...» الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه وقال: حسن صحيح.

.2- الإلهام أو القذف في القلب:

بأن يلقي الله أو الملك الموكل بالوحي في قلب نبيه ما يريد مع تيقنه أن ما ألقي إليه من قبل الله تعالى، وذلك مثل ما ورد في حديث: «إن روح القدس نفث في روعي: لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» رواه الحاكم وصححه عن ابن مسعود.

.3- الرؤيا في المنام:

ورؤيا الأنبياء وحي؛ وذلك مثل: رؤية إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أن يذبح ابنه، ورؤية نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه في منامه أنهم سيدخلون البلد الحرام وقد كان، وفي الحديث الصحيح، الذي رواه البخاري: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح...

.4- تعليم الله أنبياءه بوساطة ملك:

والمختص بذلك من ملائكة الله هو أمين الوحي جبريل عليه السلام وهذا القسم يعرف بـ الوحي الجلي.
وقد بين الله سبحانه هذه الأقسام بقوله: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [سورة الشورى: 51] إذ المراد بالوحي في الآية: الإلهام أو المنام، لمقابلته للقسمين الآخرين: التكليم من وراء حجاب أو بواسطة رسول، والوحي الذي بوساطة جبريل.. له حالات ثلاث:
أ- أن يأتي جبريل في صورته التي خلقه الله عليها، وهذه الحالة نادرة، وقليلة، وقد ورد عن السيدة عائشة: أن النبي لم ير جبريل على هذه الحالة إلّا مرتين: مرة في الأرض، وهو نازل من غار حراء ومرة أخرى في السماء، عند سدرة المنتهى ليلة المعراج، رواه أحمد.
ب- أن يأتي جبريل في صورة رجل كدحية الكلبي، أو أعرابي مثلا، ويراه الحاضرون ويسمعون قوله، ولا يعرفون هويته، ولكن النبي يعلم علم اليقين: أنه جبريل، وذلك كما في حديث جبريل الطويل في الصحيحين وحديث أم سلمة، ورؤيتها رجلا على صورة دحية الكلبيّ، فظنته هو، حتى بيّن النبي لها أنه جبريل.
ج- أن يأتي على صورته الملكية، وفي هذه الحالة لا يرى، ولكن يصحب مجيئه صوت كصلصلة الجرس، أو دوي كدوي النحل، وقد دلّ على هاتين الحالتين حديث سؤال الحارث بن هشام النبي صلى الله عليه وسلم: عن كيفية مجيء الوحي إليه وهو في صحيح البخاري كما تقدم.
والوحي بجميع أنواعه يصحبه علم يقيني ضروري من الموحى إليه بأن ما ألقي إليه حق من عند الله ليس من خطرات النفس ولا نزعات الشيطان، وهذا العلم اليقيني لا يحتاج إلى مقدمات، وإنما هو من قبيل إدراك الأمور الوجدانية، كالجوع والعطش والحب والبغض.